سورة العنكبوت - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63)} [العنكبوت: 29/ 61- 63].
هذه الآيات إفحام للمشركين القائلين بتعدّد الآلهة، وإقامة للحجة عليهم، بأنهم إن سئلوا عن الأمور العظام التي هي دلائل القدرة، لم يكن لهم إلّا التسليم لله تعالى.
فو الله يا محمد إن سألت المشركين بالله إلها آخر: من الذي أوجد أو خلق السماوات وما فيها من الشمس والقمر المسخّرين المذلّلين بأمر الله في مدار معين وبنظام دقيق ينشأ عنهما تعاقب الليل والنهار، وما في السماوات أيضا من كواكب ونجوم ثوابت وشهب منقضة، وما في الأرض من كنوز ومعادن وجبال وأنهار وبحار ومخلوقات أرضية متعدّدة، وما تدلّ عليه من عظمة وقدرة إلهية، لو سألتهم أيها الرسول عن ذلك، لأجابوك بأن الموجد المبدع الخالق هو الله تعالى، فكيف يصرفون عن توحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له؟! فإن المعترف بأن الله هو الخالق، ينبغي أن يعترف بوحدانية هذا الإله الذي لا يشاركه في خلقه وتدبيره أحد، والمعنى المراد:
أن المقرّ بتوحيد الرّبوبية لله، يجب عليه الإقرار بتوحيد الألوهية، فلا إله غيره، سواء من الأصنام والأوثان، أو من الملائكة، أو الكواكب أو غيرها.
والدليل الآخر بعد الاعتراف لله بالخلق والتدبير: هو أن الله تعالى من أجل دوام المخلوقات، تكفّل برزقها، ويسّره لها، لكن بحكمة إلهية معينة هي لمصلحة المخلوق، فالله يوسع الرزق لمن يشاء من عباده امتحانا واختبارا له، ويضيق الرزق على من يريد ابتلاء ومحنة، على وفق مقتضى الحكمة وبحسب المصلحة المستقرة، لأن الله تامّ العلم بكل شيء، من المفاسد والمصالح، فيمنح ويمنع ويوسع ويقتر، بما يراه الأصلح للعباد، كما جاء في آية أخرى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)} [الشّورى: 42/ 27].
واستمرارا لمدد الرزق، وتقريرا لحقيقة ثابتة يعترف بها المشركون: أنك أيها الرسول لو سألتهم أيضا عمن ينزل المطر من السماء أو السحاب، فيحيي به الأرض الجدبة بعد جفافها ويبسها، فتصبح متحرّكة نضرة بالنبات الأخضر، لأجابوك بأن الله تعالى هو الفاعل لذلك، فإذا قالوا هذا، فقل لهم أيها النّبيّ: الحمد لله على قيام الحجة عليكم، وأن الله مصدر النّعم كلها، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعقلون هذا التناقض الحاصل منهم، فتراهم يقولون بأن الله هو الخالق الرّازق، ثم يقولون بوجود إله آخر معه، فيخالف فعلهم قولهم، وإقرارهم، ويعبدون مع الله تعالى وثنا أو حجرا أو معدنا لا يتمتع بحقائق الألوهية، ولا ينفعهم شيئا، ولا يضرّهم إن تركوا عبادته. إن هذا لون من ألوان الحماقة والخرافة والطيش والبدائية القائمة.
أحوال الدنيا والكافرين فيها:
الإنسان فيما يتعلق بقضايا الدين والدنيا قد يكون قصير النظر، لا ينظر إلى ما وراء هذا العالم، وتقلّبات الدنيا سريعة وشؤونها لاهية، حتى إذا ما وقع في المحنة الخانقة، تراه يبذل كل ألوان الرجاء والإستغاثة، لاستنقاذ نفسه، وما تعرّض له من مخاوف الغرق أو الإعصار أو الزلزال، ولا يقدّر المشرك المقيم في مكة نعمة الأمن الكبرى في البلد الحرام الآمن، مع أن البلاد المجاورة وغيرها لا أمان فيها ولا اطمئنان. إن الكافر بالله هو الظالم الحقيقي لنفسه، ولا ظلم أشدّ طغيانا من افتراء الكذب على الله أو تكذيبه بالحقّ الثابت الساطع. أما المؤمن المجاهد نفسه وهواه، فإن الله يوفّقه للخير وسبيل النجاة، ويؤيّده ويؤازره لإحسانه العمل، واستقامته في الحياة، قال الله تعالى مبيّنا أحوال الدنيا والناس فيها.


{وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 29/ 64- 69].
وصف الله تعالى واقع الدنيا في هذه الآية بأنها لهو ولعب، أي ما كان منها لغير وجه الله تعالى، فإن ما كان لله تعالى فهو من الآخرة، ذلك أن كل ما كان من أمور الدنيا الزائدة على الضروري الذي به قوام العيش والحياة، والتّقوي على الطاعات، فإنما هو لهو يتلهّى به، ولعب يتسلّى به. وأما الآخرة فهي الحيوان، أي دار الحياة الباقية الخالدة. وهذا الوصف مفيد القوم الذين يعلمون الحقائق، ويدركون المصائر، ومن علم بذلك آثر الباقي على الفاني. والفرق بين اللهو واللعب: أن اللعب إقبال على الباطل، واللهو: إعراض عن الحق. ثم وصف الله المشركين في وقت المحنة:
فإنهم إذا ركبوا في السفينة مثلا، وتعرّضوا لخطر الغرق، دعوا الله وحده ناسين كل صنم وغيره، مخلصين النّية والرغبة إلى الله تعالى، صادقين في توجّههم، فإذا أمنوا ونجوا من الخطر أو الهلاك، عادوا لشركهم، ونادوا أصنامهم وأوثانهم، كافرين بنعمة النجاة. فقوله تعالى: {إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ} معناه يرجعون إلى ذكر أصنامهم وتعظيمها.
إنهم في بقائهم على الشّرك يؤول أمرهم إلى الكفر بما آتاهم الله من نعم، والتمتع بعبادة الأصنام، فتكون لام {لِيَكْفُرُوا} و{وَلِيَتَمَتَّعُوا} لام العاقبة أو الصيرورة، أو إنها لام (كي) للتعليل على سبيل التهديد، أي يشركون ليبقوا كافرين، منعمين بالوثنية، مثل قوله تعالى: {اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ}.
ثم عدّد الله تعالى على كفرة قريش نعمته، ومنها أمانهم في مكة البلد الآمن الحرام، من غير تعرّض لقتل ونهب وسلب، فجدير بهم شكر هذه النعمة، مع أن الناس كانوا يتخطّفون من كل مكان حولهم، ثم قرّرهم الله على حالهم على جهة التوبيخ، وهي إيمانهم بالباطل وهو الأوثان، وكفرهم بالله ونعمته، إنه تقرير لواقع ووصف له، لا على سبيل الرّضا به، وإنما التّنديد به.
ثم إنهم أظلم الناس، وقد أعلمهم الله أنه لا أحد أظلم منهم، وفي ذلك وعيد شديد، فهم أحقّ الناس بالعقاب، إذ لا أحد أشد عقوبة ممن كذّب على الله بالشّرك، ولزم تكذيب كتابه ورسوله، أليس لهم مقر عقاب؟! أليست جهنم هي مثوى ومأوى جميع الكافرين؟! إن هذا التهديد والوعيد بهذه الألفاظ الموجزة الجامعة للمعاني الكثيرة لا نظير له في عالم التحذير والإنذار، والفحوى بيان عاقبة المشركين الكافرين.
أما عاقبة المؤمنين: فهي الظفر بجنان الخلد والرضوان، فالذين جاهدوا أنفسهم وأطاعوا ربّهم، ونصروا دين الله وكتابه ورسوله، وقاتلوا المعتدين المكذبين بالحق، إنهم هم الذين هداهم الله ووفّقهم إلى طريق الجنة، وسبيل السعادة والخير، في الدنيا والآخرة، والله دائما مع المحسنين أعمالهم بالنصرة والتأييد، والحفظ والرعاية.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا} أي من أجل إرضائنا وعلى هدي قرآننا. إن هذه المقارنة بين أحوال العصاة والكافرين، وأحوال الأتقياء والطائعين، تبيّن تباين الحالين، وفرق المصيرين، إنه فرق شاسع، ووضع متباين، أهل الشّرك والكفر في نيران تتلظّى بهم، وأهل الإيمان والطاعة في جنان ونعم يتمتعون بها وينعمون في ظلالها، فما أنعم حال السعداء، وما أشقى حال الأشقياء؟!

1 | 2 | 3 | 4 | 5